ربانية المفتي
إذا كان الإفتاء له ثلاثة أركان، المفتي والمستفتي والفتوى فلا ينبغي أن نتغافل عن البعد الرابع وهو الحس الدعوي في الفتوى فالله تعالى يقول: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)؛ فربط الله عز وجل بين التعليم والتدريس وبين أن يكونوا بذلك ربانيين؛ أي بالإضافة للإخلاص أن يكونوا حكماء بين الناس؛ يقول ابن سعدي رحمه الله في تفسير قوله عز وجل (ربانيين): "أي علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم". فمن السهل جدًّا على العالم أن ينقل اختياره الفقهي للمستفتي بينما من الصعب أحياناً أن يتفهم المفتي مراد السائل الخفي من سؤاله والذي قد يغير فحوى فتواه.
فمن القصص الشهيرة في هذا الباب(1) أنّ ثمة رجلاً كان يحب امرأة حبًّا شديداً؛ فرفضت الزواج منه ورضيت بآخر، فقام فقتلها، فأدركه الندم وجاء لابن عباس رضي الله عنهما يسأله هل له من توبة، فقال ابن عباس: هل لك أُمَّ؟ فقال: لا. فسأل أحد الحضور ابن عباس لمَ سأل عن الأم؟ فقال: لا اعلم شيئاً يكفِّر السيئات مثل برِّ الأُمِّ. فهنا ابن عباس رضي الله عنهما انتبه بأنّ هذا الرجل ارتكب جريمة اجتماعية فوجَّهه بموجب الشرع لسدِّ ثغرة اجتماعية أخرى.
بينما في حادثة أخرى(2) جاءه سائل يسأله هل للقاتل توبة وكان يبدو عليه الغضب الشديد ممَّا يدلُّ على أنَّ الرجل يبحث عن ثغرة شرعيةً لارتكاب جريمة قتل. لذلك أغلق ابن عباس الباب وقال: لا ليس له توبة ولم يقل نعم إن كان له أمٌّ يبرُّها كذاك الذى أفتاه لما ارتكب جريمة.
وهنا يتجلَّى ذلك البُعد الدعوي في الفتوى في فهم حال المستفتي، مع أنه كان يُبرئ ذمة ابن عباس رضي الله عنهما أن ينقل الحكم الشرعي فحسب ولا يدخل في تلك التفاصيل التي أملاها عليه حسه الدعوي.
بقلم/ تركي عيسى المطيري
مدير إدارة الإفتاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الأدب المفرد.
(2) قال ابن حجر في التلخيص: رحاب -أحد رواته- ثقة، وقد سردتها بالمعنى.